إن وسائل الاتصال الحديثة كما أنها فرصة كبيرة لتبليغ الرسالة المحمدية ، فهي أيضاً وسيلة يتخذها غير المسلمين ولا سيما الغربيين لنشر معتقداتهم وتصوراتهم المخالفة لتلك الرسالة . وهذه فتنة ، لكن لا حيلة لنا الآن في ردها ، فماذا نفعل ؟ وهل وصول هذه الثقافات شر كله على المسلمين ، أم أنه قد ينطوي على بعض الخير ؟ لا شك أن في وصولها بعض
الخير . ومن هذا الخير :
أولاً : أن معرفة ثقافة غير المسلمين أمر ضروري لحسن إبلاغ الدعوة إليهم ولمجادلتهم ؛ لأن الدعوة تكون أوقع في نفس المدعو إذا كانت مرتبطة بمحيطه الثقافي ، ناقدة ومقوِّمة له .
نعم ! إن في ما يقوله ويعتقده غير المسلم ما هو قبيح ومؤذٍ للمسلم ، لكن معرفته مع ذلك مهمة . وهذا كتاب ربنا مليء بحكاية أقوالهم القبيحة ، والرد عليها ، وتسلية الرسل والمسلمين الذين يتعرضون لسماعها . ] وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إداً . تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ الجِبَالُ هَداً . أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَداً . ومَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ ولَداً . إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وعَدَّهُمْ عَداً . وكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً [ [مريم : 88 - 95] .
] وقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ولُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [ [ المائدة : 64] .
] وإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا واللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [ [الأعراف : 28] .
] قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [ [الأنعام : 33] .
] وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إلَيْهِ ومِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ . قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وإنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [ . [ هود : 78 ، 79] .
ثانياً : إن في العالم الآن مئات المواقع الإسلامية على الشبكة العالمية ، وكلها تتلقى أسئلة عن الإسلام كما تتلقى نقداً له ، أو شبهات تثار حوله ، وكل هذا يعطي الدعاة فرصاً ثمينة لتبليغ الدعوة الإسلامية ، وقد اهتدى بحمد الله تعالى عن هذا الطريق ، وما تزال تهتدي أعداد كبيرة من الناس في شتى بقاع العالم .
ثالثاً : إن أخبار المهتدين هؤلاء سواء كانت هدايتهم عن طريق الشبكة أو عن طريق آخر مما يسرُّ المسلم ويزيده إيماناً بدينه وثقة به ، ولا سيما حين يستمع إلى الأسباب التي أخذت بأيديهم للدخول في الإسلام وتفضيله على ما كانوا ينتمون إليه من معتقدات وقيم وثقافات ، والتحول الكبير الذي حدث في نفوسهم وسلوكهم بعد اعتناقهم الإسلام .
رابعاً : بل إن الاطلاع على الحضارة الغربية ، ومعرفة حقيقتها كان سبباً في عودة بعض المسلمين إلى دينهم ، بعد أن كانوا مغترين ببريق تلك الحضارة ، ومبتعدين عن الإسلام .
سألت أحدهم وكان سودانياً بمدينة لندن عن سبب عودته ، فقال : إنه قال لنفسه كلاماً فحواه : أنه إذا كان هذا الذي يراه هو نهاية مطاف الحضارة الغربية فإنه مصير لا يريده لنفسه ولا لبلده . وحدثني آخر وكان شاباً من بنغلاديش التقيت به في كاليفورنيا فقال : إنه اكتشف أنه كان مخدوعاً في هذه الحضارة وأنه كان يتصورها على غير حقيقتها التي اكتشفها في أمريكا ، وأنه كان قبل مجيئه إلى الولايات المتحدة يسخر من تقاليد بلده ولا سيما في الزي ويقلد الزي ويقلد كل ما هو أمريكي ، لكنه الآن غيَّر رأيه .
والآن ما أكثر المسلمين الذين يريدون الفرار من أمريكا أو أوروبا إلى أي بلد مسلم ، خوفاً على أخلاق أبنائهم وعلى دينهم ! هذا مع أن الذين لا يعرفون الغرب معرفة هؤلاء يكون أكبر همهم أن يهاجروا إليه ، وأن يربوا أبناءهم في مدارسه .
خامساً : لكن الثقافات الأخرى مهما كانت لا تخلو من بعض الخير ، فمعرفتها على حقيقتها تصحح الصورة القاتمة التي يرسمها لها بعض المتدينين عندنا من الذين لم يطلعوا عليها . وجوانب الخير هذه التي لا يكاد يخلو منها مجتمع بشري هي من بقايا الفطرة الخيِّرة التي فطر الله عليها العباد ، وهي التي تمكنهم من رؤية الحق حين يعرض عليهم ، وتساعدهم على قبوله حين يعرفونه ، وإلا لو كان كل الناس من غير المسلمين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً لما اهتدى أحد منهم إلى الإسلام ولا عرف قيمته ؛ فكما أن الصورة المثالية للحضارة الغربية تفتن بعض الناس فإن الصورة المشوهة لها قد تيئس بعض الناس من هدايتهم .
سادساً : لكن وجود هذا الخير في حضارة كالحضارة الغربية شيء ، وتصويرها على أنها المثال الذي ينبغي أن يحتذى في هذا العصر شيء آخر . أذكر أنني نقلت لمجموعة من الأمريكان في أحد المؤتمرات العلمية ما يقوله بعض المفكرين العرب عنهم ، وكان مما قلت لهم : إنهم يقولون إنكم تختارون ناخبيكم على أسس علمية موضوعية ، وعلى أساس البرامج التي يقدمونها لكم ، فضحكوا حتى ضجت بهم القاعة ، كأنني أسمعتهم نكتة من أظرف النكات . وذلك لأنه في الوقت الذي كان يقول فيه بعض المفكرين العرب ما ذكرت ، كان هنالك معلق سياسي أمريكي مشهور يقول عن الانتخابات : إنها موسم ترويح أو تسلية . والمعروف أن من بين أسباب اختيار الرئيس : شكله ، ونكاته ، وجمال زوجه ، ولذلك كان أنصار كلينتون يقولون للناخبين ما يقول أصحاب البضائع : اشترِ واحداً وخذ اثنين . لكن مما لا شك فيه أن لدخول الثقافات الأخرى إلى بلادنا أضراراً كثيرة ؛ وذلك أن ما ذكرنا من خيرات الاطلاع عليها ومعرفتها لا يشمل كل مطَّلع عليها من المسلمين ، بل قد يكون تأثيرها ضاراً على أغلبهم ، ولا سيما صغار السن وقليلي العلم منهم . ومما يساعد على تأثيرها الضار كونها هي الآن الحضارة القوية اقتصادياً وتقنياً ، وعسكرياً ، والناس كما قيل مولعون بتقليد الغالب . ومما يساعد على التأثير كون إعلامها القوي المتطور يعرضها بصورة جذابة تغري بها .
كيف العمل ؟
هذا سؤال كبير ، لكن نختصر الإجابة عنه فيما يلي :
يجب أولاًَ أن نعمل ما استطعنا للتقليل من فرص وصول جوانبها الضارة إلينا ، وهي الجوانب المتمثلة في كثير من الأفلام والقصص ، والجرائد والمجلات كما يجب أن نسعى للتقليل من شرها بنقد أباطيلها والرد عليها مقتدين في ذلك بكتاب ربنا كما رأينا في الآيات التي أوردناها . والرد يكون رداً مباشراً على أباطيل معينة ، كما يكون وذلك هو المهم بتزويد الناس بقواعد وأصول وأدوات وسائل الإعلام العامة . وأما الرد المباشر فيجب أن يكون عملاً يومياً تقوم به المواقع الإسلامية على الشبكة العالمية ، كما تشارك فيه الصحف والمجلات التي تروي لنا أخبار الغرب وأقواله . وتكون الوقاية منها أيضاً بتقديم البديل الذي يغني عنها : ] ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً [ [الفرقان:33] .