التصويـــــــر الفوتوغرافي-فن العصر

ظلت الكلمة ولملايين السنين الطريقة الأكثر دقة لكتابة التاريخ وتذكره لكن هذا الأمر أخذ يتغير شيئا فشيئا منذ ما يقارب المائة وخمسين سنة حيث دخلت الصورة - ومن بعدها الفيديو - متميزة عن الكلمة في حفظ تراث الشعوب، فبفضل الصورة ندرك اللون والشكل والهيئة والحركة مرة واحدة بخلاف اللغة التي نحتاج منها إلى كلمات عديدة ، كما ان التصوير كأداة للتواصل جاء كمرحلة من مراحل تطور التعبير لدى الانسان. وجاءت آلة التصوير نتيجة لتطور أدوات الانسان الصانع عبر عصور طويلة، هذا التطور جعل الفنون الحديثة ملتصقة أكثر بالصناعة ومن ثم بالاقتصاد ..... بحياة الانسان العادي، بيومياته.

منذ القديم عُرف أن الإنسان يفكر من خلال صور فأرسطو يقول : " إن التفكير مستحيل من دون صور" زاد ترسخ هذا الأمر بعد شيوع الصورة وأصبحت مفردات الإنسان المعاصر الفكرية عبارة عن صور و قد تنبأ بهدا مبكرا ابل جانس عام 1926 : "إننا نعيش بالفعل في عصر الصورة"
وقد جاءت الصورة بعد عصور طويلة جدا ومتعبة من البحث في كل ما هو فكري فهاهو انتونان آرتو يقول سنة 1930 : " الفكر الواضح ليس كافيا، انه يحدد عالما تعرض للاستهلاك تماما، ماهو واضح هو ما يمكن الوصول اليه مباشرة "

فن ... لكنه فن حقيقي

في أوربا قد يجرؤ العديد من الأشخاص على الانتحار - على تمزيق أجسادهم - لكن الكثير منهم لا يجرؤ على تمزيق صورته!!..
لو قلَّبنا قليلا تاريخ التصوير الفوتوغرافي لوجدنا صفحاته مليئة بأسماء رسامين وفيزيائيين ورهبان وفلاسفة وكيميائيين ورجال صناعة ... ولوجدنا الصدفة قد صنعت الكثير من مراحله.

إن المبادئ الأولى لتكوين الصورة التي ننظر إليها اليوم بكثير من الإعجاب ترجع إلى قرون بعيدة فيبدو أن أول من تحدث عنها قدماء المصريين، تراكمت بعدها الجهود من أرسطو الذي تكلم عن الصورة المظلمة 300 سنة قبل الميلاد وبطليموس مرورا بالحسن بن الهيثم الذي أسس علم البصريات ودا فنشي الذي تنسب له أول غرفة مظلمة والتي تعود لسنة 1519 ونيوتن وغيرهم كثيرون....

سنة 1826 حصل الفرنسي جوزيف نيسابور نييبس على أول صورة لمنظر طبيعي كانت تطل عليه أحد نوافذ منزله بجنوب فرنسا واستغرق معه التقاط الصورة ثمانية ساعات من التعريض، لكن بقي عليه أن يثبت الصورة وتوالت الجهود بعدها لتثبيتها لمدة طويلة أُستعمل خلالها بياض البيض وأملاح كلوريد الفضة والجيلاتين وبودرة البطاطس وبعدها بعقود كثيرة وصلت جهود العلماء والمصنعين إلى أشياء لم تتصورها الأجيال الأولى قط .....

في أوربا ظهرت أول صورة سنة1826 وأولى آلات التصوير سنة 1924 وهي الكاميرا لايكا 35 مم التي ابتكرها الألماني اوسكار وأُستعمل لفظ فوتوغرافيا لأول مرة سنة 1839 وهو مصطلح مأخوذ من اللغة اللاتينية مكون من شقين graphy وتعني الرسم و photo تعني الضوء أي أن فوتوغرافيا تعني الرسم بالضوء ...

عند انتشار التصوير شيئا فشيئا بدأت العائلات الأرستقراطية تستبدل البورتريهات المرسومة بالمصورة وشيئا فشيئا أصبح للعائلات المتواضعة أيضا بورتريهاتها وصورها التي تزين صالوناتها ... انتشار التصوير في أوربا آنذاك قضى على المدارس الكلاسيكية الانطباعية في الفن وجعله ينمو كفن مختلف، فن حقيقي، فن للارستقراطيين والفقراء، فن لكل الناس.

في الغرب وبفضل جيل من المصورين المبدعين الكبار صنعت خصوصية التصوير كفن وزرعوا سريعا في الأجيال اللاحقة الثقة في أن التصوير الفوتوغرافي فن كامل، ويصنع التصوير مفارقة عجيبة فرغم تقريريته الا انه اليوم يمثل احد أهم الفنون الحديثة.

في الساحة العربية خاصة يطرح كثيرا هذا التساؤل : هل التصوير الفوتوغرافي فن ؟ أعتقد أن من يسحبون صفة الفن من التصوير مازالوا يعيشون زمن ليوناردو دافنشي ويتعاملون بلغته.

إن محاولة ضبط تعريف محدد للفن هي محاولة فاشلة مسبقا فلا يمكن أن نعرّف الفن من خلال صفات موضوعية ولا من خلال صفات ذاتية مرتبطة بالمتلقي أو بالمبدع يعني أننا لا نمتلك أي مقياس مضبوط لنقيس به مدى فنية أي عمل.

يقول دوركهايم " يلبي الفن حاجاتنا إلى بث نشاطنا دون هدف ولمجرد لذتنا في بثه " هذا لا يتماهى كثيرا مع فن التصوير فالمصور الصحفي في الحرب لا يجد لذة كبيرة في تصوير المأساة الإنسانية كما أن كبار المصورين في العالم ليسوا ا أولئك المصورين الذين يصورون الورود والأزهار والوجوه الغبية بل هم أناس ذوو أهداف ومشاريع انسانية كبيرة، يقول المصور العالمي سيباستياو سالغادو الذي يرتبط اسمه بالمجاعة، الفقر، الهجرة، العمل في العالم عن اعماله " كل مراحل عملي مترابطة كفصول الحكاية الواحدة : صور مزارعي أمريكا اللاتينية الذين يقاومون من أجل حياتهم ، صور الساحل وهي صور اللاجئين والجماعات النازحة، أيضا صور العمال كلها تُعنى بالإنسان الذي يقاوم من أجل كرامته والذي يحاول أن يعيش عيشة أفضل. أحاول أن أسجل بوفاء هذه اللحظة القصيرة في عمر العالم الذي أعيش فيه، إن التصوير هو طريقة حياتي..." ويقول عن صوره : " ... صوري هي كالـمُحَدِّد الذي يربط الأحداث مع بعضها انها تعطي فرصة الرؤية لمن لا يستطيع السفر ..." ويقول عندما أتهم بممارسة الفن على حساب الألم الانساني :" ما أريده من صوري ليس أن تكون مواضيع فنية، هي صور صحفية، كل صوري بلا استثناء "

يقول بيكاسو " الطبيعة والفن شيئان مختلفان ونحن نعبر بواسطة الفن عن مفهومنا لما نفتقده في الطبيعة " اعتقد أن التصوير جاء ليبحث في شيء طالما أهملناه انه السطح، الطبيعة، الجسد يقول بول فاليري "ان سطح الجلد هو العمق الغائر الذي لا يضاهيه عمق آخر"

إن الصورة بحق مجال بحث في شيء تعودنا رؤيته بل وأهملناه ففي زحمة البحث عن المعنى فقدنا الإحساس بظاهر الشيء بشكله فنحن نبحث دائما عن الروح ولا اعتقد أننا قد فهمنا كما ينبغي الجسد.

ما أريد أن اخلص إليه هو أننا لا يمكن أن نطبق كل معايير الفنون على فن التصوير لأنه بكل بساطة أتى بعدها جميعا.

إن قيمة التصوير كفن تستمد من حقيقته على هذا اعتقد أن ما يقوم به بعض المصورين العرب من تشويه كبير للصورة عبر حرق النيغاتيف أو التلاعب الكبير بمحتوى الصورة بالفوتو شوب أو بغيره مثلا لا يندرج تحت فن التصوير بل يخرج منه إلى فضاءات تشكيلية أخرى.

إن المتأمل للتصوير، لفن التصوير لا يجده فنا فقط بل يجده أكثر الفنون التصاقا بمبادئ العصر ورغم أنه الفن الذي يجمع بين التكوين الجمالي والتكوين التقني إلا أنه أكثر الفنون بساطة أكثر الفنون حقيقة.

* ميلود بن علي - مصور وكاتب فوتوغرافي جزائري